فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {والله جعل لكم مما خلق ظلالًا}.
فيه وجهان:
أحدهما: البيوت، قاله الكلبي.
الثاني: الشجر، قاله قتادة.
{وجعل لكم من الجبال أكنانًا} الأكنان: جمع كِنّ وهو الموضع الذي يستكن فيه، وفيه وجهان:
أحدهما أنه ظل الجبال.
الثاني: أنه ما فيها من غار أو شَرَف.
{وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ} يعني ثياب القطن والكتان والصوف.
{وسرابيل تقيكم بأسكم} يعني الدروع التي تقي البأس، وهي الحرب.
قال الزجاج: كل ما لبس من قميص ودروع فهو سربال.
فإن قيل: فكيف قال: {وجعل لكم من الجبال أكنانًا} ولم يذكر السهل وقال: {تقكيم الحر} ولم يذكر البرد؟
فعن ذلك ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن القوم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل، وكانوا أهل حر ولم يكونوا أهل برد، فذكر لهم نعمه عليه مما هو مختص بهم، قاله عطاء.
الثاني: أنه اكتفى بذكر احدهما عن ذكر الآخر، إذ كان معلومًا أن من اتخذ من الجبال أكنانًا اتخذ من السهل، واسرابيل التي تقي الحر تقي البرد، قاله الفراء، ومثله قول الشاعر:
وما أدري إذا يممتُ أرضًا ** أريد الخير أيهما يليني

فكنى عن الشر ولم يذكره لأنه مدلول عليه.
الثالث: أنه ذكر الجبال لأنه قدم ذكر السهل بقوله تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا} وذكر الحرَّ دون البرد تحذيرًا من حر جهنم وتوقيًا لاستحقاقها بالكف عن المعاصي.
{كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} أي تؤمنون بالله إذا عرفتم نعمه عليكم، وقرأ ابن عباس {لعلكم تسلمون} بفتح التاء أي تسلمون من الضرر، فاحتمل أن يكون عنى ضرر الحر والبرد واحتمل أن يكون ضرر القتال والقتل، واحتمل أن يريد ضرر العذاب في الآخرة إن اعتبرتم وآمنتم.
قوله عز وجل: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: أنه عنى النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون نبوته ثم ينكرونها ويكذبونه، قاله السدي.
الثاني: أنهم يعرفون منا عدد الله تعالى عليهم في هذه السورة من النعم وأنها من عند الله وينكرونها بقولهم أنهم ورثوا ذلك عن آبائهم، قاله مجاهد.
الثالث: أن انكارها أن يقول الرجل: لولا فلان ما كان كذا وكذا ولولا فلانٌ ما أصبت كذا، قاله عون بن عبد الله.
الرابع: أن معرفتهم بالنعمة إقرارهم بأن الله رزقهم، وإنكارهم قولهم: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا.
الخامس: يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها.
ويحتمل سادسًا: يعرفونها في الشدة، وينكرونها في الرخاء.
ويحتمل سابعًا يعرفونها بأقوالهم، وينكرونها بأفعالهم. قال الكلبي: هذه السورة تسمى سورة النعم، لما ذكر الله فيها من كثرة نعمه على خلقه.
{وأكثرهم الكفارون} فيه وجهان:
أحدهما: معناه وجميعهم كافرون، فعبر عن الجميع بالأكثر، وهذا معنى قول الحسن.
الثاني: أنه قال: {وأكثرهم الكافرون} لأن فيهم من جرى عليه حكم الكفر تبعًا لغيره كالصبيان والمجانين، فتوجه الذكر إلى المكلفين. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}.
هذه آية تعديد نعمة الله على الناس في البيوت، فذكر أولًا بيوت التمدن وهي التي للإقامة الطويلة وهي أعظم بيوت الإنسان، وإن كان الوصف ب {سكنًا} يعم جميع البيوت، والسكن مصدر يوصف به الواحد، ومعناه يسكن فيها وإليها ثم ذكر تعالى بيوت النقلة والرحلة، وقوله: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا} يحتمل أن يعم به بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف، لأن هذه هي من الجلود، لكونها نابتة فيها، نحا إلى ذلك ابن سلام، ويكون قوله: {ومن أصوافها} عطفًا على قوله: {من جلود الأنعام}، أي جعل بيوتًا أيضًا، ويكون قوله: {أثاثًا} نصبًا على الحال، و{تستخفونها} أي تجدونها خفافًا وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {ظعَنكم} بفتح العين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: {ظعْنكم} بسكون العين، وهما لغتان، وليس بتخفيف، و{ظعن} معناه رحل والأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز والبقر، ولم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان فلذلك اقتصر على هذه، ويحتمل أن ترك ذلك القطن والحرير والكتان إعراضًا والكتان في لفظ السرابيل، والأثاث متاع البيت واحدتها أثاثة، هذا قول أبي زيد الأنصاري، وقال غيره الأثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه.
قال القاضي أبو محمد: والاشتقاق يقوي هذا المعنى الأعم: لأن حال الإنسان تكون بالمال أثيثة، تقول شعر أثيث ونبات أثيث إذا كثر والتف، وقوله: {إلى حين} يريد به وقتًا غير معين، وهو بحسب كل إنسان إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء التي هي أثاث، ومن هذه اللفظة قول الشاعر: الوافر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا ** بذي الزيّ الجميل من الأثاث

وقوله: {والله جعل لكم مما خلق ظلالًا وجعل لكم من الجبال أكنانًا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر} الآية، نعم عددها الله عليهم بحسب أحوالهم وبلادهم، وأنها الأشياء المباشرة لهم، لأن بلادهم من الحرارة وقهر الشمس بحيث للظل غناء عظيم ونفع ظاهر، وقوله: {مما خلق} يعم جميع الأشخاص المظلة، و{الأكنان} جمع كن وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك، و{السرابيل} جميع ما يلبس على جميع البدن كالقميص والقرقل، والمجول والدرع والجوشن والخفتان ونحوه، وذكر وقاية الحر إذا هو أمس في تلك البلاد على ما ذكرنا، والبرد فيها معدوم في الأكثر، وإذا جاء في الشتوات فإنما يتوقى بما هو أكثف من السربال المتقدم الذكر، فتبقى السرابيل لتوقي الحر فقط، قاله الطبري عن عطاء الخراساني، الا ترى أن الله قد نبههم إلى العبرة في البرد ولم يذكر لهم الثلج لأنه ليس في بلادهم، قال ابن عباس: إن الثلج شيء أبيض ينزل من السماء ما رأيته قط.
قال القاضي أبو محمد: وأيضًا فذكر أحدهما يدل على الآخر، ومنه قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضًا ** أريد الخير أيهما يليني

قال القاضي أبو محمد: وهذه التي ذكرناها هي بلاد الحجاز، وإلا ففي بلاد العرب ما فيه برد شديد، ومنه قول متمم:
إذ القشع من برد الشتاء تقعقعا

ومنه قول الآخر:
في ليلة من جمادى ذات أندية

البيتين، وغير هذا، والسرابيل التي تقي البأس هي الدرع، ومنه قول كعب بن زهير: البسيط:
شم العرانين أبطال لبوسهمُ ** من نسج داود في الهيجا سرابيل

وقال أوس بن حجر:
ولنعم حشو الدرع والسربال

فهذا يراد به القميص، و{البأس} مس الحديد في الحرب، وقرأ الجمهور: {يتم نعمته}، وقرأ ابن عباس {تتم نعمته} على أن النعمة هي تتم، وروي عنه {تتم نعمه} على الجمع وقرأ الجمهور: {تسلمون} من الإسلام، وقرأ ابن عباس {تَسلمون} من السلامة، فتكون اللفظة مخصوصة في بأس الحرب، وما في {لعل} من الترجي والتوقع فهو في حيز البشر المخاطبين، أي لو نظر الناظر هذه الحال لترجى منها إسلامهم.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)}.
هذه الآية فيها موادعة نسختها آية السيف، والمعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم، وإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه، ثم قرعهم ووبخهم بأنهم يعرفون نعمة الله في هذه الأشياء المذكورة، ويقرون أنها من عنده ثم يكفرون به تعالى، وذلك فعل المنكر للنعمة الجاحد لها، هذا قول مجاهد، فسماهم منكرين للنعمة تجوزًا، إذ كانت لهم أفعال المنكر من الكفر برب النعمة وتشريكهم في النعمة الأوثان على وجه ما، وهو ما كانوا يعتقدون للأوثان من الأفعال من الضر والنفع، وقال السدي: النعمة هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفهم تعالى بأنهم يعرفون بمعجزاته وآيات نبوته وينكرون ذلك بالتكذيب، ورجحه الطبري، ثم حكم على أكثرهم بالكفر وهم أهل مكة، وذلك أنه كان فيهم من قد داخله الإسلام، ومن أسلم بعد ذلك. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}.
فيه عشر مسائل:
الأولى قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ} معناه صيّر.
وكلُّ ما علاك فأظلّك فهو سقف وسماء، وكل ما أَقَلّك فهو أرض، وكلُّ ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار؛ فإذا انتظمتْ واتصلت فهو بيت.
وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر أولا بيوت المدن وهي التي للإقامة الطويلة.
وقوله: {سَكَنًا} أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره؛ إلا أن القول خرج على الغالب.
وعدّ هذا في جملة النعم فإنه لو شاء خلق العبد مضطربًا أبدًا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد، ولو خلقه ساكنًا كالأرض لكان كما خلق وأراد، ولكنه أوجده خلقًا يتصرّف للوجهين، ويختلف حاله بين الحالتين، وردّده كيف وأين.
والسَّكَن مصدر يوصف به الواحد والجمع.
ثم ذكر تعالى بيوت النقلة والرِّحلة وهي:
الثانية فقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا} أي من الأنطاع والأَدم.
{بُيُوتًا} يعني الخيام والقِباب يَخفّ عليكم حملها في الأسفار.
{يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} الظّعن: سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع؛ ومنه قول عنترة:
ظعن الذين فراقَهم أتوقّع ** وجرى ببينهم الغراب الأبقع

والظعن الهودج أيضًا؛ قال:
ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا ** وإذ جادت بوشك البين غربان

وقرئ بإسكان العين وفتحها كالشَّعْر والشَّعَر.
وقيل: يحتمل أن يعم به بيوت الأَدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف؛ لأن هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها؛ نحا إلى ذلك ابن سَلام.
وهو احتمال حسن، ويكون قوله: {ومنْ أَصْوَافِهَا} ابتداء كلام، كأنه قال: جعل أثاثًا؛ يريد الملابس والوطاء، وغير ذلك؛ قال الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا ** بذي الزِّيّ الجميل من الأثاث

ويحتمل أن يريد بقوله: {مِّن جُلُودِ الأنعام} بيوت الأَدَم فقط كما قدمناه أولًا.
ويكون قوله: {ومن أصوافها} عطفًا على قوله: {من جلود الأنعام} أي جعل بيوتًا أيضًا.
قال ابن العربي: وهذا أمر انتشر في تلك الديار، وعَزَبت عنه بلادنا، فلا تُضرب الأخبِيَة عندنا إلاّ من الكَتّان والصوف، وقد كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم قُبّة من أَدَم، وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة، واعتلاء في الصنعة، وحسنا في البشرة، ولم يعدّ ذلك صلى الله عليه وسلم تَرفا ولا رآه سرفًا؛ لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان.
ومن غريب ما جرى أني زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين، فدخلنا عليه في خباء كَتّان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفًا، وقال: إن هذا موضع يكثر فيه الحَرّ والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك؛ فقال: هذا الخباء لنا كثير، وكان في صنعنا من الحقير؛ فقلت: ليس كما زعمت! فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الزهاد قُبّة من أَدَم طائفيّ يسافر معها ويستظلّ بها؛ فُبهت، ورأيته على منزلة من العيّ فتركته مع صاحبي وخرجت عنه.
الثالثة قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووَبَر الإبل وشعر المعز، كما أذِن في الأعظم، وهو ذبحها وأكل لحومها، ولم يذكر القطن والكتّان لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به، وإنما عدّد عليهم ما أنعم به عليهم، وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا.
وما قام مقام هذه وناب منابها فيدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها؛ وهذا كقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43].؛ فخاطبهم بالبَرَد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرًا عندهم، وسكت عن ذكر الثلج؛ لأنه لم يكن في بلادهم، وهو مثله في الصفة والمنفعة، وقد ذكرهما النبيّ صلى الله عليه وسلم معًا في التطهير فقال: «اللَّهُمّ اغسلني بماء وثلج وبَردَ» قال ابن عباس: الثلج شيء أبيض ينزل من السماء وما رأيته قَطّ.
وقيل: إن ترك ذكر القطن والكَتّان إنما كان إعراضًا عن التَّرَف؛ إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف.
وهذا فيه نظر؛ فإنه سبحانه يقول: {يا بني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} [الأعراف: 26]. حسبما تقدّم بيانه في الأعراف.
وقال هنا: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} فأشار إلى القطن والكَتّان في لفظة {سرابيل} والله أعلم.
و{أَثَاثًا} قال الخليل: متاعًا منضمًا بعضه إلى بعض؛ من أَثّ إذا كثر.
قال:
وفَرْعٍ يَزِين المَتْنَ أسودَ فاحمٍ ** أَثيثٍ كقِنْوِ النخلة المُتَعَثْكِلِ

ابن عباس: {أَثَاثًا} ثيابًا، وقد تقدّم.
وتضمّنت هذه الآية جواز الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار على كل حال، ولذلك قال أصحابنا: صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز الانتفاع به على كل حال، ويغسل مخافة أن يكون عَلِق به وسخ؛ وكذلك روت أم سلمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا بأس بجلد الميتة إذا دُبغ وصوفِها وشعرِها إذا غُسل» أنه مما لا يَحُلّه الموت، وسواء كان شعر ما يؤكل لحمه أو لا، كشعر ابن آدم والخنزير، فإنه طاهر كله؛ وبه قال أبو حنيفة، ولكنه زاد علينا فقال: القَرْن والسِّن والعظم مثل الشعر؛ قال: لأن هذه الأشياء كلها لا روح فيها فلا تنجس بموت الحيوان.